الأمرِ بالصبر، وبَيان أنَّ الصبر عند أوَّل صدمة
الصبر: حبس النفس عن
الجزع.
وفي «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «ما أُعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر».
وقال علي عليه السلام
للأشعث بن قيس: «إنك إن صبرت إيماناً واحتساباً، وإلا سلوت كما تسلو
البهائم».
وكتب حكيم إلى رجل قد أصيب بمصيبة: «إنك قد ذهب منك ما رزقت به، فلا
يذهبن عنك ما عُوِّضت عنه، يعني من الأجر».
وقال حكيم: الجزع لا يردّ الفائت،
ولكن يسرّ الشامت.
وقال آخر: العاقل من يفعل أول يوم من أيام المصيبة ما يفعله
الجاهل بعد خمسة أيام.
قال المصنف ـــ رحمه الله ـــ قلت: وقد علم أن مَرَّ
الزمان يسلي المصائب، فلذلك أمر الشرع بالصبر، عند الصدمة الأولى.
وعن أبي
موسى عن النبي صلى الله عليه وسلّم«أنه خرج إلى البقيع، فأتى على امرأة جاثية على
قبر تبكي، فقال لها: «يا أمة الله، اتقي الله، واصبري»، قالت: يا عبد الله، أنا
الحزنى الثكلى، قال: «يا أمة الله، اتقي الله، واصبري»، قالت: يا عبد الله، لو كنت
مصاباً لعذرتني، قال: يا أمة الله، اتقي الله، واصبري». قالت: يا عبد الله، قد
أسمعتني، فانصرف.
قال: فانصرف عنها، وبصر بها رجل من المسلمين، فأتاها، فسألها:
ما قال لك الرجل؟ فأخبرته بما قال، وما ردّت عليه، فقال لها: أتعرفينه؟ قالت: لا،
قال: ويحك ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبادرت تسعى حتى أدركته، قالت: يا
رسول الله أَصْبِرُ، قال: «الصبر عند الصدمة الأولى»، ثلاث مرات.
قال أبان بن
ثعلب: رأيت أعرابية تمرّض ولدها، فلما فاض أغمضته، ثم تنحت، وقالت: ما أحقّ من ألبس
العافية، وأسبغت عليه النعمة، وأطيلت له النظرة، أن يعجز عن التوثق لنفسه قبل حلّ
عقدته، والحلول بعقوته.
فأجابها أعرابي: لم نزل نسمع أن الجزع للنساء، ولقد كرم
صبرك. فقالت: ما بَيّن رجل بين الصبر والجزع، إلا أصاب بينهما منهجين بعيدي
التفاوت.
أما الصبر فحسن العلانية، محمود العاقبة، وأما الجزع فغير معوّض مع
مأثمه.
وأصيبت منفوسة بنت زيد الفوارس بابنها، فقالت، وهو في حجرها: والله
لتقدّمك أمامي أحب إليّ من تأخرك ورائي، ولصبري عليك أجدى من جزعي عليك، ولئن كان
فراقك حسرة، إنّ توقع أجرك لخيرة.
ونظر رجل
إلى امرأة بالبصرة، فقال: ما رأيت مثل هذه النضارة، وما ذاك إلا من قلة الحزن.
فقالت: يا عبد الله، إنَّ لي حزناً ما شاركني فيه أحد. قال: وكيف؟ قالت: أخبرك أن
زوجي ذبح شاة يوم أضحى، ولي صبيَّان يلعبان، فقال الأكبر للأصغر: أتريد أن أريك كيف
ذبح أبي الشاة؟ قال: نعم. فذبحه، فلما ارتفع الصراخ، هرب الغلام، فالتجأ إلى الجبل،
فأكله الذئب، فخرج أبوه يطلبه، فمات عطشاً، فأفردني الدهر. فقال: فكيف صبرت؟ فقالت:
لو وجدت في الجزع دركاً ما حزنت عليهم.